فصل: تفسير سورة ن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 12‏]‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَ‏}‏ أعتدنا ‏{‏لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ أي‏:‏ بئس المآل والمنقلب‏.‏

‏{‏إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ يعني الصياح‏.‏

‏{‏وَهِيَ تَفُورُ‏}‏ قال الثوري‏:‏ تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ أي‏:‏ يكاد ينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم، ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ‏}‏ يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ أي‏:‏ لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال‏:‏ أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏لا يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة‏"‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي‏:‏ يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏"‏سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله‏"‏، فذكر منهم‏:‏ ‏"‏رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده‏:‏ حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كيف أنتم وربكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الله ربنا في السر والعلانية‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ليس ذلكم النفاق‏"‏‏.‏

لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه‏.‏

ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر‏:‏ ‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ بما خطر في القلوب‏.‏

‏{‏أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ ألا يعلم الخالق‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ألا يعلم الله مخلوقه‏؟‏ والأول أولى، لقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏‏.‏

ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا‏}‏ أي‏:‏ فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ‏}‏ فالسعي في السبب لا ينافي التوكل، كما قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أخبرني بكر بن عمرو، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول‏:‏ إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول‏:‏ إنه سمع عمر بن الخطاب يقول‏:‏ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا‏"‏‏.‏

رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق، مع توكلها على الله، عز وجل، وهو المسَخِّر المسير المسبب‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏}‏ أي‏:‏ المرجع يوم القيامة‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي‏:‏ ‏{‏مَنَاكِبِهَا‏}‏ أطرافها وفجاجها ونواحيها‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ ‏{‏مَنَاكِبِهَا‏}‏ الجبال‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن بشير بن كعب‏:‏ أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا‏}‏ فقال لأم ولد له‏:‏ إن علمت ‏{‏مَنَاكِبِهَا‏}‏ فأنت عتيقة‏.‏ فقالت‏:‏ هي الجبال‏.‏ فسأل أبا الدرداء فقال‏:‏ هي الجبال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 26‏]‏

‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ‏}‏ أي‏:‏ تذهب وتجيء وتضطرب، ‏{‏أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا‏}‏ أي‏:‏ ريحا فيها حصباء تدمغكم، كما قال‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وهكذا توعدهم هاهنا بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ أي‏:‏ كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأمم السالفة والقرون الخالية، ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي‏:‏ فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم‏؟‏ أي‏:‏ عظيمًا شديدًا أليمًا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ‏}‏ أي‏:‏ تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ في الجو ‏{‏إِلا الرَّحْمَنُ‏}‏ أي‏:‏ بما سخر لهن من الهواء، من رحمته ولطفه، ‏{‏إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ بما يصلح كل شيء من مخلوقاته‏.‏ وهذه كقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 79‏]‏‏.‏

‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه، فقال‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم من دونه من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏}‏‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده‏؟‏‏!‏ أي‏:‏ لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق، وينصر إلا الله، عز وجل، وحده لا شريك له، أي‏:‏ وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏بَلْ لَجُّوا‏}‏ أي‏:‏ استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ‏{‏فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏}‏ أي‏:‏ في معاندة واستكبارًا ونفورًا على أدبارهم عن الحق، ‏[‏أي‏]‏ لا يسمعون له ولا يتبعونه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏؟‏‏:‏ وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه، أي‏:‏ يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي‏:‏ لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب‏؟‏ بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى ‏{‏أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا‏}‏ أي‏:‏ منتصب القامة ‏{‏عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة‏.‏ هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة‏.‏ فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قال الإمام أحمد، رحمه الله‏:‏ حدثنا ابن نُمَير، حدثنا إسماعيل، عن نُفَيع قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم‏"‏‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق ‏[‏يونس بن محمد، عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، به نحوه‏]‏ ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ‏}‏ أي‏:‏ العقول والإدراك، ‏{‏قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أقل تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، ‏{‏وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم‏.‏

ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ متى ‏[‏يقع‏]‏ هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق‏؟‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله، عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه، ‏{‏وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ وإنما علي البلاغ، وقد أديته إليكم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي‏:‏ فأحاط بهم ذلك، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47، 48‏]‏؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ‏:‏ ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ‏}‏ أي‏:‏ تستعجلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ خَلِّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي‏:‏ آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا، كما قال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة‏؟‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا‏}‏ أي‏:‏ ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا يُنَال بالفئوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر‏:‏ عكس النابع؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ‏}‏ أي‏:‏ نابع سائح جار على وجه الأرض، لا يقدر على ذلك إلا الله، عز وجل، فمن فضله وكرمه ‏[‏أن‏]‏ أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فلله الحمد والمنة‏.‏

‏[‏آخر تفسير سورة ‏"‏تبارك‏"‏ ولله الحمد‏]‏

تفسير سورة ‏"‏ن‏"‏

وهي مدنية‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول ‏"‏سورة البقرة‏"‏، وأن قوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ ‏{‏ق‏}‏ ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط، وهو حامل للأرضين السبع، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏

حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان- هو الثوري- حدثنا سليمان- هو الأعمش- عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس قال‏:‏ أول ما خلق الله القلم قال‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب القَدَر‏.‏ فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة‏.‏ ثم خلق ‏"‏النون‏"‏ ورفع بخار الماء، ففُتِقت منه السماء، وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض‏.‏

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به‏.‏ وهكذا رواه شعبة، ومحمد بن فُضَيل، وَوَكِيع، عن الأعمش، به‏.‏ وزاد شعبة في روايته‏:‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ وقد رواه شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان- أو مجاهد- عن ابن عباس، فذكر نحوه‏.‏ ورواه مَعْمَر، عن الأعمش‏:‏ أن ابن عباس قال‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال‏:‏ إن أول شيء خلق ربي، عز وجل، القلم، ثم قال له‏:‏ اكتب‏.‏ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة‏.‏ ثم خلق ‏"‏النون‏"‏ فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه‏.‏

وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال‏:‏ حدثنا أبو حبيب زيد بن المهتدي المروذي حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم‏:‏ اكتب، قال‏:‏ ما أكتب، قال‏:‏ كل شيء كائن إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ فالنون‏:‏ الحوت‏.‏ والقلم‏:‏ القلم‏.‏

حديث آخر في ذلك‏:‏ رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق ‏"‏النون‏"‏ وهي‏:‏ الدواة‏.‏ ثم قال له‏:‏ اكتب‏.‏ قال وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما يكون- أو‏:‏ ما هو كائن- من عمل أو رزق أو أثر أو أجل‏.‏ فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال‏:‏ وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك ممن أبغضت‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح‏:‏ إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال‏:‏ كان يقال‏:‏ النون‏:‏ الحوت ‏[‏العظيم‏]‏ الذي تحت الأرض السابعة‏.‏

وذكر البغوي وجماعة من المفسرين‏:‏ إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فالله أعلم‏.‏ ومن العجيب أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏

حدثنا إسماعيل، حدثنا حُمَيد، عن أنس‏:‏ أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فسأله عن أشياء، قال‏:‏ إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، قال‏:‏ ما أول أشراط الساعة‏؟‏ وما أول طعام يأكله أهل الجنة‏؟‏ وما بال الولد ينزع إلى أبيه‏؟‏ والولد ينزع إلى أمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أخبرني بهن جبريل آنفًا‏"‏‏.‏ قال ابن سلام‏:‏ فذاك عدو اليهود من الملائكة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم من المشرق إلى المغرب‏.‏ وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت‏.‏ وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت‏"‏‏.‏ ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد، ورواه مسلم أيضا وله من حديث ثوبان- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- نحو هذا‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان‏:‏ أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، فكان منها أن قال‏:‏ فما تحفتهم‏؟‏- يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة- قال‏:‏ ‏"‏زيادة كبد الحوت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما غذاؤهم على أثرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما شرابهم عليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من عين فيها تسمى سلسبيلا ‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ لوح من نور‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحسين بن شبيب المكتب، حدثنا محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية بن قُرّة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ لوح من نور، وقلم من نور، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏ وهذا مرسل غريب‏.‏

وقال ابن جُرَيج أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ دواة، والقلم‏:‏ القلم‏.‏ قال ابن جرير‏:‏

حدثنا عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ قالا هي الدواة‏.‏

وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏خلق الله النون، وهي الدواة‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله، حدثنا ثابت الثمالي، عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله خلق النون- وهي الدواة- وخلق القلم، فقال‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، به بر أو فجور، أو رزق مقسوم حلال أو حرام‏.‏ ثم ألزم كل شيء من ذلك، شأنه‏:‏ دخوله في الدنيا، ومقامه فيها كم‏؟‏ وخروجه منها كيف‏؟‏ ثم جعل على العباد حفظة، وللكتاب خزانًا، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة‏:‏ ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا‏.‏ قال‏:‏ فقال ابن عباس‏:‏ ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏؟‏ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏والقلم‏}‏ الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله ‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العاق‏:‏ 3- 5‏]‏‏.‏ فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ يعني‏:‏ وما يكتبون‏.‏

وقال أبو الضُّحى، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وما يعملون‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة‏.‏ وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم، فقال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي، عن عطاء- هو ابن أبي رباح- حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال‏:‏ دعاني أبي حين حضره الموت فقال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم، فقال له‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ يا رب وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب القدر ‏[‏ما كان‏]‏ وما هو كائن إلى الأبد‏"‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق، عن الوليد بن عبادة، عن أبيه، به وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، به وقال‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏ ورواه أبو داود في كتاب ‏"‏السنة‏"‏ من سننه، عن جعفر بن مسافر، عن يحيى بن حسان، عن ابن رباح، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة- واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي- عن عبادة، فذكره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، حدثنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بَزة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء‏"‏‏.‏ غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه

وقال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالْقَلَمِ‏}‏ يعني‏:‏ الذي كتب به الذكر‏.‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يكتبون كما تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ لست، ولله الحمد، بمجنون، كما قد يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون، ‏{‏وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ بل لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم‏.‏ ومعنى ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ غير مقطوع كقوله‏:‏ ‏{‏عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ غير مقطوع عنهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام‏.‏ وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد‏.‏

وقال عطية‏:‏ لعلى أدب عظيم‏.‏ وقال مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالت‏:‏ كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ ألست تقرأ القرآن‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قالت‏:‏ فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال‏:‏ سألت عائشة فقلت‏:‏ أخبريني يا أم المؤمنين- عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ أتقرأ القرآن‏؟‏ فقلتُ‏:‏ نعم‏.‏ فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

هذا حديث طويل‏.‏ وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله وسيأتي في سورة ‏"‏المزمل‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن قال‏:‏ سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن قيس بن وهب، عن رجل من بني سواد قال‏:‏ سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ أما تقرأ القرآن‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ حدثيني عن ذاك‏.‏ قالت‏:‏ صنعت له طعامًا، وصنعت له حفصة طعامًا، فقلت لجاريتي‏:‏ اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام‏!‏ قالت‏:‏ فجاءت بالطعام‏.‏ قالت‏:‏ فألقت الجارية، فوقعت القصعة فانكسرت- وكان نِطْعًا- قالت‏:‏ فجمعه رسول اللهوقال‏:‏ ‏"‏اقتضوا- أو‏:‏ اقتضى- شك أسود- ظَرفًا مكان ظَرفِك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ فما قال شيئًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس، حدثنا أبي، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن سعد بن هشام‏:‏ قال‏:‏ أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها‏:‏ أخبريني بخلُق النبي صلى لله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏ أما تقرأ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وقد روى أبو داود والنسائي، من حديث الحسن، نحوه

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، وأخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير قال‏:‏ حججتُ فدخلتُ على عائشة، رضي الله عنها، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن‏.‏

وهكذا رواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي‏.‏ ورواه النسائي في التفسير، عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، به

ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه‏.‏ هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل‏.‏ كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال‏:‏ خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي‏:‏ ‏"‏أف‏"‏ قط، ولا قال لشيء فعلته‏:‏ لم فعلته‏؟‏ ولا لشيء لم أفعله‏:‏ ألا فعلته‏؟‏ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ‏[‏حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله‏]‏ حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء يقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير

والأحاديث في هذا كثيرة، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب ‏"‏الشمائل‏"‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت‏:‏ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله‏.‏ ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله، عز وجل‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق‏"‏‏.‏ تفرد به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ أي‏:‏ فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك‏:‏ من المفتون الضال منك ومنهم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 26‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ستعلم ويعلمون يوم القيامة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ أي‏:‏ الجنون‏.‏ وكذا قال مجاهد، وغيره‏.‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ ‏{‏بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ أي‏:‏ أولى بالشيطان‏.‏

ومعنى المفتون ظاهر، أي‏:‏ الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وإنما دخلت الباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ لتدل على تضمين الفعل في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ‏}‏ وتقديره‏:‏ فستعلم ويعلمون، أو‏:‏ فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون‏.‏ والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 15‏]‏

‏{‏فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم ‏{‏فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏{‏وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ‏}‏ وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ المهين الكاذب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الضعيف القلب‏.‏ قال الحسن‏:‏ كل حلاف مكابر مهين ضعيف‏.‏

وقوله ‏{‏هَمَّازٍ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ يعني الاغتياب‏.‏ ‏{‏مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال‏:‏ ‏"‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة‏"‏ الحديث‏.‏ وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم، من طرق عن مجاهد، به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن هَمّام؛ أن حُذَيفة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة قَتَّات‏"‏‏.‏ رواه الجماعة -إلا ابن ماجة- من طرق، عن إبراهيم، به‏.‏

وحدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة قتات‏"‏ يعني‏:‏ نماما‏.‏

وحدثنا يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد الأحول، عن الأعمش، حدثني إبراهيم -منذ نحو ستين سنة- عن همام بن الحارث قال‏:‏ مر رجل على حذيفة فقيل‏:‏ إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء‏.‏ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -أو‏:‏ قال-‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة قتات‏"‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا هاشم، حدثنا مهدي، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل قال‏:‏ بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث، فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة نمام‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيم، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بخياركم‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الذين إذا رُؤوا ذُكر الله، عز وجل‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بشراركم‏؟‏ المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، والباغون للبرآء العَنَت‏"‏‏.‏ ورواه ابن ماجة، عن سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خُثَيم، به‏.‏

وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان، عن ابن أبي حُسَين، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت‏"‏

وقوله ‏{‏مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ يمنع ما عليه وما لديه من الخير ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ في متناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ يتناول المحرمات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ أما العتل‏:‏ فهو الفظ الغليظ الصحيح، الجموع المَنُوعُ‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن مَعْبَد بن خالد، عن حارثة بن وهب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أنبئكم بأهل الجنة‏؟‏ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار‏؟‏ كل عُتل جَوّاظ مستكبر‏"‏‏.‏ وقال وَكِيع‏:‏ ‏"‏كل جَوَّاظ جعظري مستكبر‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة، إلا أبا داود، من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن معبد بن خالد، به‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قال‏:‏ سمعت أبي يحدِّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار‏:‏ ‏"‏كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ الجعظري‏:‏ الفَظُّ الغَليظ، والجَوّاظ‏:‏ الجَمُوع المَنُوع‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد الحميد، عن شَهْر بن حَوْشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتلِّ الزنيم، فقال‏:‏ ‏"‏هو الشديد الخَلْق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، رحيب الجوف‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة الجَواظ الجعظري، العتل الزنيم‏"‏ وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مِقضَمًا فكان للناس ظلومًا‏.‏ قال‏:‏ فذلك العُتُل الزنيم‏"‏‏.‏وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين، ونص عليه غير واحد من السلف، منهم مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم‏:‏ أن العتل هو‏:‏ المُصحَّح الخَلْق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح، وغير ذلك، وأما الزنيم فقال البخاري‏:‏ حدثنا محمود، حدثنا عُبَيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حَصِين، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة‏.‏

ومعنى هذا‏:‏ أنه كان مشهورًا بالشر كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها‏.‏ وإنما الزنيم في لغة العرب‏:‏ هو الدّعِيُّ في القوم‏.‏ قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة، قال‏:‏ ومنه قول حسان بن ثابت، يعني يذم بعض كفار قريش‏:‏

وأنتَ زَنيم نِيطَ في آل هاشم *** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْد

وقال آخر‏:‏

زَنيمٌ لَيْسَ يُعرَفُ مَن أبوهُ *** بَغيُّ الأم ذُو حَسَب لَئيم

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا أسباط، عن هشام، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏زَنِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ الدعيُّ الفاحش اللئيم‏.‏

ثم قال ابن عباس‏:‏

زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادَةً *** كَما زيدَ في عَرضِ الأديم الأكَارع

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ الزنيم‏:‏ الدعي‏.‏ ويقال‏:‏ الزنيم‏:‏ رجل كانت به زنمة، يعرف بها‏.‏ ويقال‏:‏ هو الأخنس بن شَريق الثقفي، حليف بني زهرة‏.‏ وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسودُ بن عبد يغوث الزهري، وليس به‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثني يونس حدثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المُسيَّب، أنه سمعه يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ قال سعيد‏:‏ هو الملصق بالقوم، ليس منهم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عقبة بن خالد، عن عامر بن قدامة قال‏:‏ سئل عكرمة عن الزنيم، قال‏:‏ هو ولد الزنا‏.‏

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء‏.‏ والزنماء من الشياه‏:‏ التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها‏.‏ وقال الثوري، عن جابر، عن الحسن، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ الزنيم‏:‏ الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها‏.‏ والزنيم‏:‏ الملصق‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم‏:‏ قال‏:‏ نُعِتَ فلم يعرف حتى قيل‏:‏ زنيم‏.‏ قال‏:‏ وكانت له زَنَمَةٌ في عنقه يُعرَف بها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كان دَعيًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن أصحاب التفسير قالوا هو الذي تكون له زَنَمَة مثل زنمة الشاة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كانت له زَنَمَة في أصل أذنه، ويقال‏:‏ هو اللئيم الملصق في النسب‏.‏

وقال أبو إسحاق‏:‏ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ هو المريب الذي يعرف بالشر‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة‏.‏ وقال أبو رَزِين‏:‏ الزنيم علامة الكفر‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها‏.‏

والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو‏:‏ المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالبًا يكون دعيًا وله زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة ولد زنا‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ولد الزنا شَرُّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله وأعرض عنها، وزعم أنها كَذب مأخوذ من أساطير الأولين، كقوله‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11 -26‏]‏‏.‏ قال تعالى هاهنا‏:‏

الآية ‏[‏16‏]‏

‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ سنبين أمره بيانًا واضحًا، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم وهكذا قال قتادة‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏ شين لا يفارقه آخر ما عليه‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ سيما على أنفه‏.‏ وكذا قال السدي‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏ يقاتل يوم بدر، فيُخطم بالسيف في القتال‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ‏}‏ سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم‏.‏ حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة، وهو مُتّجه‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم في سورة ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني الليث حدثني خالد عن سعيد، عن عبد الملك بن عبد الله، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه ساخط‏.‏ وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا، ثم يموت والله عليه راض‏.‏ ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقَّبا للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم، من كلا الشفتين‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 33‏]‏

‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏

هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختبرناهم، ‏{‏كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏ وهي البستان المشتمل على أنواع الثماروالفواكه ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء، ‏{‏وَلا يَسْتَثْنُونَ‏}‏ أي‏:‏ فيما حلفوا به‏.‏ ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أصابتها آفة سماوية، ‏{‏فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي كالليل الأسود‏.‏ وقال الثوري، والسدي‏:‏ مثل الزرع إذا حُصِد، أي هشيمًا يبسًا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن أحمد بن الصباح‏:‏ أنبأنا بشر بن زاذان، عن عمر بن صبح عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيِّئ له‏"‏، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم‏.‏

‏{‏فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ،

‏{‏أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ تريدون الصرام‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان حرثهم عِنَبًا‏.‏

‏{‏فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم‏.‏ ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال‏:‏ ‏{‏فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ‏}‏ أي‏:‏ يقول بعضهم لبعض‏:‏ لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم‏!‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ‏}‏ أي‏:‏ قوة وشدة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ‏}‏ أي‏:‏ جد وقال عكرمة‏:‏ غيظ‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ ‏{‏عَلَى حَرْدٍ‏}‏ على المساكين‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏عَلَى حَرْدٍ‏}‏ أي‏:‏ كان اسم قريتهم حرد‏.‏ فأبعد السدي في قوله هذا‏!‏

‏{‏قَادِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ عليها فيما يزعمون ويَرومون‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي‏:‏ فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله، عز وجل، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة، لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي‏:‏ قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها‏.‏ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ بل هذه هي، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب‏.‏

‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة‏:‏ أي‏:‏ أعدلهم وخيرهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ‏}‏ ‏!‏ قال مجاهد، والسدي، وابن جريج‏:‏ ‏{‏لَوْلا تُسَبِّحُونَ‏}‏ أي‏:‏ لولا تستثنون‏.‏ قال السدي‏:‏ وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ هو قول القائل‏:‏ إن شاء الله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ‏}‏ أي‏:‏ هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، ‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ‏}‏ أي‏:‏ اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا، ‏{‏عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ‏}‏ قيل‏:‏ رغبوا في بذلها لهم في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم‏.‏

ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن -قال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا من أهل الحبشة- وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل‏.‏ فلما مات ورثه بنوه، قالوا‏:‏ لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا‏.‏ فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ‏}‏ أي‏:‏ هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقراء وذوي الحاجات، وبدل نعمة الله كفرا ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشق‏.‏ وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 42‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏

لما ذكر ‏[‏الله‏]‏ تعالى حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله، عز وجل، وخالفوا أمره، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تَبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء‏؟‏ كلا ورب الأرض والسماء؛ ولهذا قال ‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏!‏ أي‏:‏ كيف تظنون ذلك‏؟‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف، مُتضمن حكما مؤكدًا كما تدعونه‏؟‏ ‏{‏إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة، ‏{‏إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون، ‏{‏سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ قل لهم‏:‏ من هو المتضمن المتكفل بهذا‏؟‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من الأصنام والأنداد، ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 47‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده جنات النعيم، بين متى ذلك كائن وواقع، فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام‏.‏ وقد قال البخاري هاهنا‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا‏"‏‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور‏.‏

وقد قال عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏

قال‏:‏ هو يوم كَرْب وشدة‏.‏ رواه ابن جرير ثم قال‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -أو‏:‏ ابن عباس، الشك من ابن جرير-‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ قال‏:‏ عن أمر عظيم، كقول الشاعر‏:‏

وقامت الحرب بنا عن ساق ***

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ قال‏:‏ شدة الأمر

وقال ابن عباس‏:‏ هي أول ساعة تكون في يوم القيامة‏.‏

وقال ابن جُرَيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ قال‏:‏ شدة الأمر وجده‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ يقول‏:‏ حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال‏.‏ وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه‏.‏ وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس‏.‏ أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال‏:‏ حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، حدثنا هارون بن عمر المخزومي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏عن نور عظيم، يخرون له سجدًا‏"‏‏.‏

ورواه أبو يعلى، عن القاسم بن يحيى، عن الوليد بن مسلم، به وفيه رجل مبهم والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه‏.‏ ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب، عز وجل، فيسجد له المؤمنون، لا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجُد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وهذا تهديد شديد، أي‏:‏ دعني وإياه مني ومنه، أنا أعلم به كيف أستدرجه، وأمده في غيه وأنظر ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55، 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏ أي‏:‏ وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدي ومكري بهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏ أي‏:‏ عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي‏.‏

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى ليُمْلي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ تقدم تفسيرهما في سورة ‏"‏الطور‏"‏ والمعنى في ذلك‏:‏ أنك يا محمد تدعوهم إلى الله، عز وجل، بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله، عز وجل، وهم يكذبون بما جئتهم به، بمجرد الجهل والكفر والعناد‏.‏